الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
روى مسلم في (صحيحه)، عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلَّقها ألبتةَ وهو غائب، فأرسلَ إليها وكيلُه بشعير، فسخِطَتْهُ فقال: واللّهِ مالَكِ علينا مِن شيء، فجاءت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وما قَالَ، فقال: (لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ)، فأمرها أن تعتد في بيت أمِّ شريك، ثم قال: (تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصحَابي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابنِ أُمِّ مَكْتُوم، فإنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإذا حَلَلْتِ فآذِنيني). قالت: فلما حللتُ، ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني،فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاويةُ فصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ) فكرهته، ثم قال: (انْكِحي أسامة بنَ زَيْدٍ) فنكحته، فجعلَ اللّهُ فيه خيراً واغتبطتُ. وفي (صحيحه) أيضاً: عنها أنها طَلقها زوجها في عهدِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان أنفقَ عليها نفقةً دوناً فلما رأت ذلك، قالت: واللّه لأُعْلِمَنَّ رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لي نفقةٌ أخذتُ الذي يُصلِحُني،وإن لم تكُن لي نفقةٌ،لم آخذْ منه شيئاً، قالت: فذكرتُ ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالَ: (لاَ نَفَقَةَ لكِ وَلاَ سُكْنى). وفي (صحيحه) أيضاً عنها، أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلَّقها ثلاثاً، ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهلُه: ليس لَكِ عَلَيْنَا نفقة، فانطلق خالدُ بن الوليد في نفرٍ، فأتوْا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حَفْصٍ طلَّق امرأته ثلاثاً، فهل لها مِن نفقة؟ فقال رسولُ اللَه صلى الله عليه وسلم: (لَيْست لَهَا نَفَقَةّ وعَلَيهَا العِدَّةُ)، وأرسل إليها: (أَنْ لا تَسْبِقيني بِنَفْسِكِ)، وأمرها أن تنتقِلَ إلى أمَّ شريك، ثم أرسل إليها: (أَنَّ أُمَّ شرِيكٍ يأتيها المهاجِرونَ الأَوَّلونَ، فانْطِلقي إلى ابْنِ أُمِّ مَكتُومٍ الأَعْمَى فَإنَّكِ إِذَا وَضعْتِ خِمَارَكِ لَم يَرَكِ)، فانطلَقَت إليه، فلما انقضت عدَّتُها أنكحَهَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسامَة بن زيد بن حارثة. وفي (صحيحه) أيضاً، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام، وعياشُ بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: واللّه ما لَكِ نفقةٌ إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلمَ، فذكرت له قولهما، فقال: (لا نَفَقَةَ لَكِ)، فاستأذنته في الانتقال، فأذنَ لها، فقالت: أين يا رسولَ اللّهِ؟ قال: (إلى ابنِ أمِّ مَكتوم)، وكان أعمى تَضَعُ ثيابَها عندهُ ولا يَراهَا، فلما مضت عِدَّتها، أنكحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، فأرسلَ إليهَا مروانُ قَبيصَةَ بنَ ذُؤيب يسألُهَا عن الحديث، فحدثته به، فقال مروان لم نسمع هذا الحديثَ إلا مِن امرأة، سنأخُذ بالعِصمة التي وجدنا النَاسَ عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قولُ مروان: بيني وبينكم القرآنُ، قال اللّه عز وجلَّ: وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قولِ عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام: لا نفقة لك إلا أن تكوني حَاملاً، فاتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا نَفَقَةَ لَكِ إلاَّ أَنْ تكوني حَاملاً). وفي (صحيحه) أيضاً عن الشعبي قال: دخلتُ على فاطمة بنتِ قيس، فسألتُها عن قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليها، فقالت: طلَّقها زوجُها البتة، فخاصمته إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في السُّكنى والنفقة، قالت: فلم يجعل لي سُكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم. وفي (صحيحه) عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي، قال: سمعتُ فاطمة بنت قيس تقولُ: طلقها زوجُها ثلاثاً، فلم يجعل لها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم سُكنَى ولا نفقة، قالت: قال لي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَلَلْتِ فآذِنيني)، فآذنته، فخطبها معاويةُ، وأبُو جهم، وأسامةُ بن زيد، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أمَا معاوية فرجُل ترِب لا مال لهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضرّابٌ لِلنِّساءِ، ولكِنْ أُسامةُ بنُ زيْد)، فقالت بيدها هكذا: أسامة! أسامة! فقال لها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: (طَاعَةُ اللّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيرٌ لَكِ)، فتزوجتُه، فاغتبطتُ. وفي (صحيحه) أيضاً عنها قالت: أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، فأرسل معه بخمسة آصُع تمرٍ، وخمسة آصعِ شعير، فقلتُ: أما لي نفقة إلا هذا؟ ولا أعتَدُّ في منزلكم؟ قال: لا، فشددتُ عليَّ ثيابي، وأتيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: (كَمْ طَلَّقَكِ؟)قلتُ: ثلاثاً. قال: (صَدَقَ، لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، اعْتدِّي في بَيْتِ ابن عَمِّكِ ابنِ أُمِّ مَكْتُوم، فإنه ضَريرُ البَصَرِ تَضَعِينَ ثَوْبَكِ عِندَهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فآذِنيني). وروى النسائي في (سننه) هذَا الحَديثَ بطرقه وألفاظه، وفي بعضِها بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما النَّفَقَةُ والسُّكْنى لِلْمرأةِ إذا كان لِزوجِها عَليْها الرّجْعةُ)، ورواه الدارقطني وقال: فأتت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فذكَرَتْ ذلك له، قالت: فلم يَجْعَلْ لي سكنى ولا نفقة، وقال: (إِنَّمَا السكنى والنَّفَقَة لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ). وروى النسائي أيضاً هذا اللفظ، وإسنادهما صحيح. قال اللّه تعالى: أحدها: أن الأزواج لا يُخرجوهن مِن بيوتهن والثاني: أنهن لا يَخْرُجْنَ مِن بيوت أزواجهن. والثالث: أن لأزواجهن إمساكَهن بالمعروف قبلَ انقضاء الأجل، وترك الإِمساك، فيُسرِّحوهن بإحسان. والرابع: إشهاد ذَويْ عدل، وهو إشهادٌ على الرجعة إما وجوباً، وإما استحباباً، وأشار سُبحانه إلى حكمة ذلك، وأنه في الرجعيات خاصة بقوله: ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقاتِ، فقال: فأولها طعنُ أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فروى مسلم في (صحيحه): عن أبي إسحاق،قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالساً في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبيُّ بحديث فاطمة بنت قيسٍ، أن رسولَ اللّه ِصلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفأ مِن حصى، فحصبه به، فقال: وَيْلَكَ تُحدِّث بمثل هذا؟ قال عمر: لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللّهِ وَسُنَّةَ نبيِّنا! لِقول امرأة لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ؟ لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ قال اللّه عز وجل: في (الصحيحين): من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، قال: تزوَّجَ يحيى بنُ سعيد بن العاص بنتَ عبد الرحمن بن الحكم فطلقها، فأخرجها مِن عنده، فعابَ ذلك عليهم عروةُ، فقالوا: إن فاطمةَ قد خرجت، قال عروةُ: فأتيت عائشة رضي اللّه عنها، فأخبرتها بذلك، فقالت: ما لِفاطمة بنتِ قيس خيْرٌ أن تذكرَ هذَا الحديثَ. وقال البخاري: فانتقلها عبدُ الرحمن، فأرسلت عائشةُ إلى مروان وهو أميرُ المدينة، اتّقِ اللّهَ واردُدْها إلى بيتها. قال مروان: إن عبدَ الرحمن بن الحكم غلبني، وقال القاسم بن محمد: أو ما بلغك شأنُ فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك ألا تذكر حديثَ فاطمة، فقال مروان: إن كان بِك شرٌ، فحسبُك ما بينَ هذينِ من الشر. ومعنى كلامه: إن كان خروجُ فاطمة لما يُقال من شر كان في لسانها،فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص وبين امرأتِهِ مِن الشر. وفي (الصحيحين): عن عروة، أنه قال لعائشة رضي اللّه عنها: أَلَم تَرَيْ إلى فُلانَة بنتِ الحكم طلَّقها زوجُها البتة فخرجت، فقالت: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ، فقلتُ: أَلَمْ تسمعي إلى قولِ فاطمة، فقالت: أما إنَّه لا خَيْرَ لها في ذكر ذلك. وفي حديث القاسم، عن عائشة رضي اللّه عنها يعني: في قولها: لا سكنى لها ولا نفقة. وفي (صحيح البخاري): عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت لفاطمة: ألا نتقي اللّه، تعني في قولها لا سكنى لها ولا نفقة وفي (صحيحه) أيضاً: عنها قالت: إن فاطمةَ كانَتْ في مكانِ وَحْشٍ، فَخِيفَ على ناحِيتها، فلذلكَ أرخصَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، عن عُروة، أن عائشةَ رضي اللّه عنها أنكرت ذلك على فاطمة بنتِ قيس، تعني: (انتقالَ المطلقة ثلاثاً). وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي، حدثني أبي، عن هارون عن محمد بن إسحاق، قال: أحسِبُه عن محمد بن إبراهيم، أن عائشة رضي اللّه عنها قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجَكِ هذا اللسان. روى عبد اللّه بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليثُ بن سعد، حدثني جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمد بنُ أسامة بن زيد يقول: كان أسامةُ إذا ذكرت فاطمة شيئاً مِن ذلك يعنى انتقالها في عدتها رماها بما في يده. روى مسلم في (صحيحه): من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة حديثَ فاطمة هذا: أنه حدَّث به مروان،فقال مروان، لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا الناس عليها. روى أبو داود في (سننه): من حديث ميمون بن مِهران، قال: قدمتُ المدينةَ، فَدُفِعْتُ إلى سعيدِ بن المسيبِ، فقلتُ: فاطمة بنت قيس طلِّقت، فخَرجَت مِن بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فَتنَتِ الناسَ إنها كانت امرأةً لَسِنَة، فَوُضِعَتْ عَلَى يدي ابنِ أمِّ مكتوم الأعمى. روى أبو داود في (سننه) أيضاً، قال في خروج فاطمة: إنما كان مِن سُوءِ الخُلُقِ. تقدَّمَ حديث مسلم: أن الشعبي حدَّث بحديث فاطمة، فأخذ الأسود كفاً مِن حصباء فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟! وقال النسائي: ويلك لِمَ تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها: إن جئتِ بشاهدين يشهدانِ أنهما سمعاه من رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترُكْ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَولِ امرأة. قال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، فذكر حديث فاطمة ثم قال: فأنكر الناسُ عليها ما كانت تُحدِّث من خروجها قبل أن تَحِلَّ، قالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريحُ رواية عُمر في إيجاب النفقة والسكنى، فروى حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيمُ: إن عمر أُخْبِرَ بقولهَا، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب اللّه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لعلَّها أوهمت، سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَهَا السُّكْنَى والنَفَقَةُ) ذكره أبو محمد في (المحلى)، فهذا نص صريح يجب تقديمُه على حديث فاطمة لِجلالة رواته، وتركِ إنكارِ الصحابةِ عليه وموافقته لِكتاب اللّه. وحاصلها أربعة. أحدُها: أن راويتها امرأة لم تأتِ بشاهدينِ يتابعانها على حديثها. الثاني: أن روايتها تضمَّنت مخالفةَ القرآن. الثالث: أن خروجَها من المنزل لم يكن لأنه لا حقَّ لها في السكنى، بلا لأذاها أهلَ زوجها بلسانها. الرابع: معارضة روايتِها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. ونحن نبين ما في كل واحد من هذه الأمور الأربعة بحول اللّه وقوته، هذا مع أن في بعضها مِن الانقطاع، وفي بعضها مِن الضعف، وفي بعضها من البُطلان ما سَنُنَبهُ عليه، وبعضُها صحيح عمن نسب إليه بلا شك. فأما المطعنُ الأول: وهو كونُ الراوي امرأة، فمطعن باطلٌ بلا شك، والعلماء قاطبة على خلافة، والمحتجُّ بهذا من أتباع الأئمة أوَّلُ مبطل له ومخالف له، فإنهم لا يختلفون في أن السننَ تُؤخذ عن المرأة كما تُؤخذ عن الرجل، هذا وكم مِن سنة تلقاها الأئمة بالقبولِ عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذه مسانيد نساءِ الصحابة بأيدي الناس لا تشاءُ أن ترى فيها سنةً تفرَّدت بها امرأةّ منهن إلا رأيتَها، فما ذنبُ فاطمةَ بنتِ قيس دون نساء العالمين، وقد أخذ الناس بحديث فُريعة بنت مالِك بن سنان أختِ أبي سعيد في اعتدادِ المتوفَّى عنها في بيت زوجها وليست فاطمةُ بدونها علماً وجلالةً وثقةً وأمانةً، بل هي أفقهُ منها بلا شك، فإن فُريعة لا تُعرف إلا في هذا الخبر وأما شهرةُ فاطمة، ودعاؤها من نازعها مِن الصحابة إلى كتاب اللّه، ومناظرتها على ذلك، فأمر مشهور، وكانت أسعدَ بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريرُه، وقد كان الصحابة رضي اللّه عنهم يختلِفونَ في الشيء، فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فيأخذون به، ويرجعون إليه، ويتركون ما عندهم له، وإنما فُضِّلْنَ على فاطمة بنت قيس بكونهن أزواجَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي مِن المهاجرات الأول، وقد رضيها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لِحِبِّه وابنِ حِبِّه أسامة بن زيد، وكان الذي خطبها له. وإذا شئتَ أن تعرف مقدارَ حفظها وعلمها، فاعرفه مِن حديث الدَّجَالِ الطويلِ الذي حدث به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فوعته فاطمةُ وحفظته، وأدته كما سمعته، ولم ينكره عليها أحد مع طوله وغرابته، فكيف بقصة جرت لها وهي سببها، وخاصمت فيها، وحكم فيها بكلمتين: وهى لا نفقة ولا سكنى، والعادة تُوجبُ حفظ مثل هذا وذكره، واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمرُ قد نسي تيمُّمَ الجنب، وذكرهُ عمار بن ياسر أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لهما بالتيمم من الجنابة،فلم يذكره عمر رضي اللّه عنه، وأقام على أن الجنب لا يصلي حتى يجد الماء. ونسي قولَه تعالى: حتى ذكَّرته به امرأَة، فرجعَ إلى قولها.ونسي قوله: وأما المطعن الثاني: وهو أن روايتها مخالفة للقرآن، فنجيب بجوابين: مجملٍ، ومفصلٍ، أما المُجمل: فنقولُ: لو كانت مخالفة كما ذكرتم، لكانت مخالفةً لعمومه،فتكون تخصيصاً للعام، فحكمُها حكمُ تخصيص قوله: فإن عمَّ النوعينِ، فالحديثُ مخصِّصٌ لعمومه، وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق الذي مَنْ تدبَّره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها، فالحديث ليس مخالفاً لكتاب اللّه، بل موافق له، ولو ذُكِّرَ أميرُ المؤمنين رضي اللّه عنه بذلك، لكان أوَّل راجع إليه، فإن الرجل كما يذهَلُ عن النص يذهَلُ عن دخول الواقعة المعينة تحتَ النصِّ العام واندراجِه تحتها، فهذا كثيرٌ جداً، والتفطُنُ له من الفهم الذي يُؤتيه اللّه مَنْ يشاء من عباده، ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه مِن ذلك بالمنزلة التي لا تُجهل، ولا تستغرقها عبارةٌ، غيرَ أن الغسيان والذُّهولَ عُرضةٌ للإِنسان، وإنما الفاضلُ العالمُ من إذا ذُكِّرَ ذَكَرَ وَرَجَعَ. فحديثُ فاطمة رضي اللّه عنها مع كتاب اللّه على ثلاثة أطباق لا يخرُج عن واحد منها، إما أن يكون تخصيصاً لعامه. الثاني: أن يكون بياناَ لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثالث: أن يكون بياناً لما أريد به وموافِقاً لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه، وهذا هو الصوابُ، فهو إذن موافق له لا مخالف، وهكذا ينبغي قطعاً، ومعاذَ اللّهِ أن يحكم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بما يُخالف كتاب اللّه تعالى أو يعارضه، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه اللّه هذا مِن قول عمر رضي اللّه عنه، وجعل يتبسَّمُ ويقول: أين في كتاب اللّه إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثاً، وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة، وقالت: بيني وبينكم كتابُ اللّه، قال اللّه تعالى: وأما المطعن الثالث: وهو أن خروجها لم يكن إلا لِفحش من لسانها، فما أبردَه من تأويل وأسمجَه، فإن المرأة مِن خيار الصحابةِ رضي اللّه عنهم وفُضلائهم، ومِن المهاجرات الأول، وممن لا يحملها رِقّةُ الدين وقلة التقوىَ على فُحش يُوجب إخراجَها من دارها، وأن يمنع حقها الذي جعله اللّه لها، ونهى عن إضاعته، فيا عجباً! كيف لم يُنْكِرْ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الفُحْشَ؟ ويقول لها: اتقي اللّه، وكُفِّي لسانَك عن أذى أهل زوجك، واستقري في مسكنكِ؟ وكَيفَ يَعْدِلُ عن هذا إلى قوله: (لا نفقة لك ولا سكنى)، إلى قوله: (إنَّمَا السُّكنَى والنَّفَقةُ لِلمَرْأَةِ إذا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ؟!) فيا عجباً! كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعلَّل بأَمرٍ موهوم لم يعلل به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،البتة ولا أشار إليه، ولا نبه عليه؟ هذا من المحال البيَن. ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها اللّهُ من ذلك، لقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت وأطاعتْ: كفي لِسانَك حتى تنقضيَ عِدَّتُكِ، وكان من دونها يسمع ويطيع لئلا تخرج من سكنه. وأما المطعنُ الرابع: وهو معارضةُ روايتِها برواية عمر رضي اللّه عنه، فهذه المعارضةُ تُورد مِن وجهين. أحدهما: قوله: لا نَدَعُ كتابَ ربنا وسنةَ نبينَا،؟أن هذا مِن حكم المرفوع. الثاني: قوله: سمعتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ). ونحن نقول: قد أعاذ اللّه أميرَ المؤمنين مِن هذا الكلام الباطل الذي لا يَصِحُّ عنه أبداً. قال الإِمام أحمد: لا يَصِحُّ ذلك عن عمر. وقال أبو الحسن الدارقطني: بل السنةُ بيد فاطمة بنت قيس قطعاً، ومن له إلمام بسنة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يشهدُ شهادة اللّه أنه لم يكن عند عمر رضي اللّه عنه سنة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة ثلاثاً، السكنى والنفقة، وعمر كان أتقى للّه، وأحرصَ في تبليغ سننِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم في أن تكونَ هذه السنةُ عنده، ثم لايرويها أصلاً، ولا تبينها ولا يُبلغها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وأما حديثُ حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر رضي اللّه عنه، رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (لَهَا السُّكْنَى والنَّفَقَةُ)، فنحن نشهَدُ باللّهِ شهادةً نُسألُ عنها إذا لقيناه، أن هذا كذبٌ على عُمَرَ رضي اللّه عنه، وكذب على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن لا يَحمِلَ الإِنسانَ فرطُ الانتصارِ للمذاهب والتعصب لها على معارضةِ سننِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحيحةِ الصريحةِ بالكذب البحت، فلو يكونُ هذا عند عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لخرستَ فاطمة وذووها، ولم يَنْبِسوا بكلمة، ولا دَعَتْ فاطمة إلى المناظرة، ولا احتِيجَ إلى ذكر إخراجها لبَذاء لسانها، ولما فات هذا الحديث أئمةَ الحديثِ والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لِمذهب، ولا لرجل، هذا قبل أن نَصِلَ به إلى إبراهيم، ولو قدر؟وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم لا نقطع نخَاعُهُ، فإن إبراهيم لم يُولد إلا بعد موت عمر رضي اللّه عنه بسنين، فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيم عن عمر رضي اللّه عنه، وحسنَّا به الظن، كان قد روى له قول عمر رضي اللّه عنه بالمعنى، وظنَّ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة، حتى قال عمُر رضي اللّه عنه: لا ندع كتابَ ربنا لِقول امرأة، فقد يكون الرجل صالحاً ويكون مغفَّلاً، ليس تَحمُّلُ الحديثِ وحفظُه وروايتُه مِن شأنِهِ، وباللّهِ التوفيق. وقد تناظر في هذه المسألة ميمونُ بن مهران، وسعيدُ بن المسيِّب، فذكر له ميمون خبر فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنتِ الناسَ، فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ما فَتَنَتِ الناسَ، وإن لنا في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة، مع أنها أحرمُ الناس عليه ليس لها عليه رجعة، ولا بينهما ميراث. انتهى. ولا يعلم أحدٌ من الفقهاء رحمهم اللّه إلا وقد احتجَّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك، والشافعي. وجمهورُ الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلاً، والشافعي نفسُه احتج به على جواز جمع الثلاث، لأن في بعض، ألفاظه: فطلقني ثلاثاً، وقد بيَّنا أنه إنما طلقها آخرَ ثلاثٍ كما أخبرت به عن نفسها. واحتجَّ به من يرى جوازَ نظر المرأة إلى الرجال، واحتج به الأئمة كُلُّهُم على، جوازِ خِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا لم تكن المرأةُ قد سكنت إلى الخاطب الأول، واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحةِ لمن استشاره أن يزوِّجه، أو يُعامِلَه، أو تسافِرَ معه، وأن ذلك ليس بغيبة، واحتجوا به على جواز نكاحِ القرشية من غير القرشي، واحتجوا به على وقوعِ الطلاق في حال غيبة أحدِ الزوجين عن الآخر، وأنه لا يُشترط حضورُه ومواجهتُه به، واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن، وكانت هذه الأحكامُ كُلُها حاصلةً ببركة روايتها، وصدقِ حديثها، فاستنْبَطَتْها الأمةُ منها، وعملت بها، فما بالُ روايتها ترد في حكم واحدٍ من أحكام هذا الحديث، وتُقبل فيما عداه؟! فإن كانت حفظته، قبلت في جميعه، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيِء من أحكامه وباللّه التوفيق. فإن قيل: بقي عليكم شيء واحد، وهو أن قوله سبحانه: فالجواب: أن مُوْرِدَ هذا السؤالِ إما أن يكونَ من الموجبين النفقةَ والسكنى، أو ممن يُوجب السُّكنى دون النفقة، فإن كان الأولُ، فالآيةُ على زعمه حجة عليه، لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حواملَ، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، فدل على أن البائنَ الحائلَ لا نفقة لها. فإن قيل: فهذه دلالة على المفهوم، ولا يقولُ بها. قيل: ليس ذلك مِن دلالة المفهوم، بل مِن انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه، لم يكن شرطاً، وإن كان فمن يُوجب السكنى وحدها فيقال له: ليس في الآية ضمير واحد يخصُّ البائن، بل ضمائرها نوعان: نوع يخص الرجعية قطعاً، كقوله: فإن قيل: فما الفائدة في تخصيص، نفقة الرجعية بكونها حاملاً؟ قيل: ليس في الآَية ما يقتضي أنه، لا نفقة للرجعية الحائل، بل الرجعيةُ نوعان، قد بيَّن اللّهُ حكمهما في كتابه: حائل، فلها النفقة بعقد الزوجية، إذ حكمُها حكم الأزواج، أو حامل، فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النفقهُ بعد الوضع نفقةَ قريب لا نفقة زوج، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده، فإن الزوج يُنفق عليها وحدَه إذا كانت حاملاً، فإذا وضعت، صارت نفقتها على من تجِبُ عليه نفقة الطفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتُها على من تجب عليه نفقة الطفل، فإنه في حال حملها جزء من أجزائها، فإذا انفصل، كان له حكم آخر، وانتقلت النفقةُ مِن حكم إلى حكم، فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط واللّه أعلم بما أراد من كلامه. روى أبو داود في (سننه): عن كليب بن منفعة، عن جده، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه ! من أبَرُّ؟ قال (أُمَّك وأَبَاكَ وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ وَمَوْلاَكَ الَّذِي يَلي ذاك، حَقّ وَاجِب ورَحِمٌ مَوْصُولَةٌ) وروى النسائي عن طارِق المحاربي قال: قدمتُ المدينة، فإذا رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر يخطُب،الناسَ وهو يقول: (يَدُ المُعْطي العُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) وفي (الصحيحين): عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللّهِ ! من أحقُّ الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال (أُمُكَّ)، قال: ثم من؟ قال: (أُمُّكَ)، قال: ثم من؟ قال: (أُمُّكَ)، قال: ثم من؟ قال: (أَبُوكَ ثُمَ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ). وفي الترمذي، عن معاوية القُشيري رضي اللّه عنه، قال: قلت: يا رسولَ اللّه ! مَنْ أَبَرُ؟ قال: (أُمَّكَ)، قلتُ: ثم مَنْ؟ قال: (أُمَّكَ)، قلت: ثم من؟ قال: (أُمَّك)، قلت: ثم مَن؟ قال: (أَبَاكَ ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقرَبَ). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لِهند: (خُذي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَك بِالمَعْرُوفِ). وفي (سنن أبي داود)، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتم مِنْ كَسْبِكُمْ، وإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسبِكُم فَكُلُوهُ هنيئاً). ورواه أيضاً من حديث،عائشة رضي الله عنها مرفوعاً. وروى النسائي من حديث جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ، فَلأهْلِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابتكَ، فهكَذَا وهكَذَا). وهذا كله تفسير لقوله تعالى: قال ابن أبي شيبة: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن مطرف،عن إسماعيل، عن الحسن، عن زيد بن ثابت، قال: إذا كان أُمّ وَعَمّ، فعلى الأم بقدر مِيراثها، وعلى العم بقدر مِيراثه، ولا يعرفُ لعمر، وزيد مخالف في الصحابة البتَّةَ. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال. أحدُها أنه لا يُجْبَرُ أحدٌ على نفقةِ أحدٍ من أقاربه، وإنما ذلك بِرٌ وصِلَة، وهذا مذهب يُعَزى إلى الشعبي. قال عبدُ بنُ حميدٍ الكَشِّي: حدثنا قَبِيصةُ، عن سفيان الثوري، عن أشعث، عن الشعبى، قال: ما رأيت أحداً أجبرَ أحداً على أحدٍ، يعني على نفقته. وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر، والشعبي أفقه من هذا، والظاهر أنه أراد: أن الناسَ كانوا أتقى للّه من أن يحتاج الغنيُّ أن يجبرَهُ الحاكم على الإِنفاق على قريبه المحتاج، فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره. المذهب الثاني: انه يجب عليه النفقةُ على أبيه الأدنى، وأمِّه التي ولدته خاصة، فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين، فأما نفقةُ الأولادِ، فالرجل يُجْبرُ على نفقة ابنهِ الأدنى حتى يبلغ فقط، وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تُزَوَّجَ، ولا يجبر على نفقة ابن ابنه، ولا بنت ابنه وإن سفلا، ولا تُجْبرُ الأُمُ على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى، ولا تجب على أحد النفقةُ على ابن ابن، ولا جدٍّ، ولا أخٍ، ولا أختٍ، ولا عمٍّ،ولا عمةٍ ولا خالٍ ولا خالةٍ ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا. وتجب النفقةُ مع اتحادِ الدِّين واختلافه حيث وجبت، وهذا مذهب مالك، وهو أضيقُ المذاهب في النفقات. المذهب الثالث: أنه تجبُ نفقةُ عمودي النسب خاصة، دون مَنْ عداهم، مع اتفاق الدِّين، ويَسَارِ المنفِقِ، وقدرته، وحاجة المُنْفَقِ عليه، وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنونٍ أو زمانةٍ إن كان من العمود الأسفل. وإن كانَ من العمود الأعلى: فهل يشترط عَجْزهُم عن الكسبِ؟ على قولين. ومنهم من طرَّد القولين أيضاً في العمود الأسفل. فإذا بلغ الولد صحيحاً، سقطت نفقته ذكراً كان أو أنثى، وهذا مذهب الشافعي، وهو أوسع من مذهب مالك. المذهب الرابع: أن النفقة تَجِبُ على كل ذي رحم مَحْرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم، أو الآباء والأجداد، وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدَين واختلافه. وإن كان من غيرهم، لم تجب إلا مع اتحاد الدِّين، فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر، ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَقِ عليه. فإن كان صغيراً اعْتُبِرَ فَقْرُهُ فَقَط، وإن كان كبيراً، فإن كان أنثى، فكذلك، وإن كان ذَكَراً، فلا بُدَّ مع فقره من عَمَاهُ أو زَمَانَتِهِ، فإن كان صحيحاً بصيرا لم تجب نفقته، وهي مرتَّبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد، فإنها على أبيه، خاصة على المشهور من مذهبه. وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي: أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طرداً للقياس، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو أوسعُ من مذهب الشافعي، المذهب الخامس: أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبتْ نفقته مطلقاً، سواءً كان وارثاً أو غير وارث، وهل يشترط اتحادُ الدِّين بينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى: أنه لا تجبُ نفقتُهم إلا بشرط أن يرثهم بِفَرْضٍ أو تَعْصيب كسائر الأقارب. وإن كان من غير عمودي النسب، وجبت نفقتهم بشرط. أن يكون بينه وبينهم توارث. ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين، أو يكفي أن يكون من أحدهما؟ على روايتين. وهل يشترط ثبوت التَّوارُثِ في الحال، أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة؟ على روايتين: فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون، فلا نفقةَ لهم على المنصوص عنه، وخرَّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم، ولا بد عنده من اتِّحاد الدِّين بين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين. فإن كان الميراث بغير القرابة، كالولاء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث، وإذا لزمتْه نفقةُ رجلٍ لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه. وعنه: لا تلزمه. وعنه: تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَنْ عداهم. وعنه: تلزمه لزوجة الأب خاصة، ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَسَرٍّ إذا طلبوا ذلك.قال القاضي أبو يعلى: وكذلك يجيءُ في كل مَنْ لزمته نفقتُه: أخ، أو عم، أو غيرهما يلزمُه إعفافُه، لأن أحمد رحمه اللّه قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك، وإلا بيع عليه، وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته، لأنه لا تُمَكَّنُ من الإِعفاف إلا بذلك، وهذه غير المسألة المتقدمة، وهو وجوب الإِنفاق على زوجة المنفَق عليه، ولهذه مأخذ، ولتلك مأخذ، وهذا مذهب الإِمام أحمد، وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة، وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حيثُ يُوجِبُ النفقةَ على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع، وصلةُ الرحم التي أمر اللّه أن تُوصَلَ، وحرَّمَ الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقةُ تُسْتَحَقّ بشيئين: بالميراث بكتاب اللّه، وبالرحم بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وقد تقدَمَ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حبس عَصَبَةَ صبيٍّ أن ينفقوا عليه، وكانوا بني عمه، وتقدَّمَ قولُ زيد بن ثابت: إذا كان عَمٌّ وأمٌّ فعلى العم بقدر ميراثه، وعلى الأم بقدر ميراثها، فإنه لا مخالف لهما في الصحابة البتة، وهو قولُ جمهورِ السلف، وعليه يدل قوله تعالى: وقد أوجب النبى صلى الله عليه وسلم للأقارب، العطية وصرَّح بأنسابهم، فقال: (وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فأدناكَ، حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ). فإن قيل: فالمراد بذلك البِرُّ والصِّلةُ دون الوجوب. قيل: يَرُدُّ هذا أنه سبحانه أمر به وسمَّاهُ حقاً، وأضافه إليه بقوله: (حَقَّهُ)، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأنه حقٌّ، وأنه واجبٌ، وبعض هذا ينادى على الوجوب جهاراً. فإن قيل: المراد بحقه ترك قطيعته. فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن يقال: فأى قطيعة أعظم من أن يراه يتلظَّى جُوعاً وعَطَشاً، ويتأذَّى غاية الأذى بالحر والبرد، ولا يكسوه ما يستر عَوْرَتَهُ ويقيهِ الحرَّ والبردَ، ويُسْكِنُهُ تحت سقف يُظله، هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه، أو عمه صِنْو أبيه، أو خالته التي هي أمه، إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بَدْلُهُ للأجنبىِّ البعيد، بأن يعاوضه على ذلك في الذِّمَّةِ إلى أن يُوسر، ثم يسترجع به عليه، هذا مع كونه في غاية اليَسَارِ والجِدَةِ، وسَعَةِ الأموال. فإن لم تكن هذه قطيعة، فإنا لا ندرى ما هي القطيعة المحرمة، والصِّلَةُ التي أمر اللَّه بها، وحرَّمَ الجنة على قاطعها. الوجه الثانى: أن يقال: فما هذه الصلة الواجبة التي نادت عليها النصوصُ، وبالغت في إيجابها، وذَمَّتْ قاطعها؟ فأىُّ قَدْرٍ زائدٍ فيها على حق الاجنبىِّ حتى تَعْقِلَهُ القلوب، وتُخْبِرَ به الألسنة، وتَعْمَلَ به الجوارحُ؟ أهو السلامُ عليه إذا لقيه، وعيادتُه إذا مرض، وتشميتُه إذا عطس، وإجابتُه إذا دعاهُ، وإنكم لا تُوجبون شيئاً من ذلك إلا ما يجبُ نظيرُه للأجنبىِّ على الأجنبىِّ؟ وإن كانت هذه الصِّلةُ ترك ضربِه وسبه وأذاه والإزراء به، ونحو ذلك، فهذا حق يجبُ لكل مسلم على كُلِّ مسلم، بل للذمِّى البعيد على المسلم، فما خصوصيةُ صلةِ الواجبة؟ ولهذا كان بعضُ فضلاء المتأخِّرين يقول: أعيانى أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة. ولما أَوْرَدَ الناسُ هذا على أصحابِ مالك، وقالوا لهم: ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ صَنَّفَ بعضُهم في صلة الرحم كتاباً كبيراً، وأوعب فيه من الآثارِ المرفوعةِ، وذكر جنسَ الصلة وأنواعها وأقسامها، ومع هذا فلم يتخلَّص من هذا الإلزام، فإن الصلة معروفة يعرفُها الخاصُّ والعام، والآثارُ فيها أشهر من العلم، ولكن ما الصِّلةُ التي تختَصُّ بها الرحمُ، وتجب له الرحمة، ولا يُشاركه فيها الأجنبى؟ فلا يُمكنكم أن تُعَيِّنوا وجوب شىءٍ إلا وكانت النفقةُ أوجبَ منه، ولا يمكنكم أن تَذْكُروا مُسْقِطاً لوجوب النَّفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قد قَرَنَ حَقَّ الأخ والأخت بالأب والأم، فقال:(أُمَّكَ وأَبَاكَ، وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ)، فما الذي نسخ هذا، وما الذي جعل أَوَّلَهُ للوجوب، وآخِرَهُ للاستحبابِ؟ وإذا عُرِفَ هذا، فليس من بِرِّ الوالدينِ أن يَدَعَ الرجلُ أباهُ يَكْنُسُ الكُنُفَ، ويُكارى على الحُمر، ويُوقِدُ في أَتوُّنِ الحَمَّامِ، ويَحْمِلُ للناس على رأسه ما يَتَقَوَّتُ بأُجْرَتِهِ، وهو في غاية الغِنى واليَسَار، وسَعَةِ ذاتِ اليدِ، وليس مِن بِرِّ أُمِّهِ أن يَدَعَهَا تَخْدُمُ النَّاسَ، وتغسلُ ثيابهم، وتسقى لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصُونُها بما يُنْفِقهُ عليها، ويقول: الأبوان مُكْتَسِبَانِ صحيحانِ، وليسا بِزَمِنَيْنِ ولا أَعْمَيَيْنِ، فباللَّهِ العجبُ: أين شرطُ اللَّه ورسولهِ في برِّ الوالدين، وصِلَةِ الرَّحمِ أن يكون أحدُهم زَمِناً أو أعمى، وليست صِلَةُ الرَّحمِ ولا بِرُّ الوالدين موقوفةً على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً، وباللَّه التوفيق. ثبت في (الصحيحين): من حديث عائشة رضى اللَّه عنها، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ الولاَدَة).وثبت فيهما: من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أُريد على ابنة حمزَة، فقال: (إِنَّهَا لا تَحِلُّ لى، إنَّهَا ابنةُ أخى مِن الرَّضاَعَةِ وَيَحْرُمُ مِن الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ من الرَّحِم).وثبت فيهما: أنه قال لعائشة رضى اللَّه عنها: (ائذَنى لأَفْلَحَ أخى أبى القُعَيْسِ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ) وكانَت امرأَتُه أرضعت عائشةَ رضى اللَّه عنها.وبهذا أجاب ابنُ عباس لما سئل عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غُلاماً: أَيحِلُّ للغلام أن يتزوجَ الجارية؟ قال: لا اللِّقَاحُ واحِدُ. وثبت في (صحيح مسلم) عن عائشة رضىاللَّه عنها، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ). وفى رواية: (لاَ تُحَرِّمُ الإملاجَةُ والإملاجَتَانِ). وفى لفظ له: أن رجلاً قال: يا رسولَ اللَّه هل تحرِّم الرضعةُ الواحِدَةُ؟ قال: لا. وثبت في (صحيحه) أيضاً: عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كَانَ فيما نَزَلَ مِنَ القُرآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثم نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فتوفِّىَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهُنَّ فيما يقرأ مِن القرآن. وثبت في (الصحيحين): من حديث عائشة رضى اللَّه عنها، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّمَا الرَّضَاعَةُ من المَجَاعَة).وثبت في (جامع الترمذى): من حديث أم سلمة رضى اللَّه عنها، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إلا ما فَتَقَ الأمْعَاء في الثَّدْى وكَانَ قَبْل الفِطَام)، وقال الترمذى: حديث صحيح. وفى سنن الدارقطنى بإسناد صحيح، عن ابن عباسٍ يرفعه: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين). وفى سنن أبى داود: من حديث ابن مسعود يرفعه: (لا يحرم مِن الرضَاع إلا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ العَظْمَ). وثبت في (صحيح مسلم): عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: جاءت سَهْلَة بنتُ سُهَيْل إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إنى أرَى في وجه أبى حُذَيْفَةَ مِن دُخُولِ سالمٍ وهو حَلِيفُهُ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (أَرْضِعيهِ تَحْرُمى عَلَيْهِ).وفى رواية له عنها قالت: جاءت سَهْلَةُ بنتُ سُهَيْل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إنى أرى في وجه أبى حُذَيْفَة من دخول سالم وهو حليفُه، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (أرضعيهِ)، فقالت: وكيف أُرضِعُهُ وهو رَجُلٌ كبير، فتبسَّم رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقال: (قد عَلِمْتُ أنه كبير). وفى لفظ لمسلم: أن أم سلمةَ رضى اللَّه عنها قالت لعائشةَ رضى اللَّه عنها: إنه يدخُل عليك الغلامُ الأيْفَعُ الذي ما أُحِبُّ أن يدخلَ علىَّ، فقالت عائشةُ رضى اللَّه عنها: أما لَكِ في رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوةٌ؟ إن امرأة أبى حُذيفة قالت: يا رسولَ اللَّه، إن سالماً يدخلُ علىَّ وهو رَجُل، وفى نفس أبى حُذيفَة منه شىءٌ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (أَرْضِعيهِ حَتّى يَدْخُل عَلَيْكِ). وساقه أبو داود في (سننه) سياقه تامة مطولة، فرواه من حديث الزهرى، عن عروة، عن عائشة وأم سلمة رضى اللَّه عنهما، أن أبا حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنَّى سالماً، وأنكَحَهُ ابنةَ أخيه هنداً بنتَ الوليد بن عتبة، وهو مولىً لامرأة من الأنصار، كما تَبَنَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان مَنْ تَبَنَّى رجلاً في الجاهلية، دعاهُ النَّاسُ إليه، وَوَرِثَ ميراثَه، حتى أنزل اللَّه تعالى في ذلك: فتضمنت هذه السُّنَنُ الثابتةُ أحكاماً عديدةً، بعضها متفق عليه بين الأُمَّة، وفى بعضها نِزاع. الحكم الأول: قولُه صلى الله عليه وسلم: (الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ ما تُحَرِّمُ الوِلادَةُ)، وهذا الحكم متفقٌ عليه بين الأمَّةِ حتى عِند من قال: إن الزيادة على النص نسخ، والقرآنُ لا يُنْسخُ بالسُّنَّةِ، فإنه اضْطُر إلى قبولِ هذا الحكم وإن كان زائداً على ما في القرآن، سواء سماه نسخاً أو لم يُسمه، كما اضطُر إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتِهَا، وبينَها وبينَ خالتها، مع أنه زيادةٌ على نص القرآن، وذكرها هذا مع حديث أبى القُعَيس في تحريم لبن الفَحْل على أنَّ المرضعةَ والزوج صاحبَ اللَّبَن قد صارا أبوين للطفل، وصار الطفلُ ولداً لهما، فانتشرتِ الحُرْمة مِن هذِهِ الجهات الثلاثِ، فأولادُ الطفلِ وإن نزلوا أولادُ ولدِهما، وأولادُ كُلِّ واحد من المرضعة والزوج من الآخر ومن غيره، إخوتهُ وأَخواته من الجهات الثلاث. فأولادُ أحدهما من الآخر إخوتُه وأَخواته لأبيه وأمه، وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه، وأولادُ المرضعة من غيره إخوتُه وأخواتُه لأمه، وصار آباؤها أجدَادَهُ وجَدَّاتِه، وصارَ إخوة المرأة وأخواتُها أَخوالَه وخالاتِه، وإخوةُ صاحب اللبن وأخَواتُه أعمامه وعَمَّاتِه، فَحُرْمَةُ الرَّضَاعِ تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط. ولا يتعدَّى التحريمُ إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأَخَواتِهِ، فيُباح لأخيه نِكَاحُ مَنْ أرضعتْ أخاهُ وبناتِهَا وأمهاتِهَا، ويُباحُ لأُختِه نكاحُ صَاحِبِ اللبن وأباهُ وبنيه، وكذلك لا ينتشِرُ إلى مَنْ فوقه من آبائِهِ وأمهاتِهِ، ومَنْ في درجتهِ مِن أعمامِهِ وعَمَّاتِهِ وأخوالِهِ وخالاتِهِ، فلأبى المرتضعِ مِن النسب، وأجدادهِ أن يَنْكِحُوا أُمَّ الطِّفْل من الرضاع وأمهاتِها وأخَواتِهَا وبناتِهَا وبناتِهَا، وأن يَنْكِحُوا أُمَّهاتِ صاحبِ اللبن وأخواتِهِ وبناتِهِ، إذ نظيرُ هذا من النسب حلال، فللأخ من الأب أن يتزَوَّج أختَ أخيه من الأُمِّ، وللأْخ من الأم أن يَنْكِحَ أختَ أخيه من الأب، وكذلك يَنكِحُ الرجل أم ابنه من النسب وأختها، وأما أمُّها وبنتُها، فإنما حرمتا بالمصاهرة. وهل يحرمُ نظيرُ المصاهرة بالرضاع، فيحرمُ عليه أمُّ امرأتِه مِن الرضاع، وبنتُها من الرَّضَاعة، وامرأةُ ابنه من الرَّضاعة، أو يحرمُ الجمعُ بين الأختين من الرَّضاعة، أو بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها من الرضاعة؟ فحرَّمه الأئمة الأربعة وأتباعهم، وتوقف فيه شيخُنا وقال: إن كان قد قال أحد بعدم التحريم، فهو أقوى. قال المحرِّمون: تحريمُ هذا يدخلُ في قوله صلى الله عليه وسلم: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ من النَّسَبِ) فأجرى الرَّضاعة مجرى النسب، وشبَّهها به، فثبت تنزيلُ ولد الرضاعة وأبى الرضاعة منزلةَ ولد النسب وأبيه، فما ثبت للنسب من التحريم، ثبت للرَّضاعة، فإذا حَرُمَت امرأة الأب والابن، وأُمُّ المرأة، وابنتُها من النسب، حَرُمْنَ بالرَّضاعة. وإذا حَرُمَ الجمع بين أُختى النسب، حَرُمَ بين أُختى الرضاعة، هذا تقدير احتجاجهم على التحريم. قال شيخ الإسلام: اللَّه سبحانه حَرَّمَ سبعاً بالنسب، وسبعاً بالصِّهْر، كذا قال ابن عباس. قال: ومعلوم أن تحريمَ الرضاعة لا يُسمَّى صِهْراً، إنما يَحْرُم منه ما يَحْرُمُ من النسب، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قال: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعةِ ما يَحْرُمُ من الولادة). وفى رواية: (ما يَحْرُم من النَّسَبِ). ولم يقل: وما يَحْرُم بالمصاهرة، ولا ذكره اللَّهُ سبحانه في كتابه، كما ذكر تحريم الصِّهرِ، ولا ذَكَر تحريمَ الجمع في الرَّضَاعِ كما ذكره في النسب، والصِّهْر قسيمُ النسب، وشقيقُه، قال اللَّه تعالى: وبالجملة: فثبوتُ أحكام النسب من وجهٍ لا يستلزمُ ثُبوتَها من كل وجه، أو من وجه آخر، فهؤلاء نساءُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم هُنَّ أُمَّهاتُ المؤمنين في التحريم والحُرْمة فقط، لا في المحرمية، فليس لأحد أن يخلوَ بهنَّ ولا ينظرَ إليهن، بل قد أمرهُنَّ اللَّه بالاحتجابِ عَمَّن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن، ومَنْ بينهن وبينه رضاع، فقال تعالى: ومما يدلُّ على ذلِكَ أيضاً قولُه تعالى في المحرَّمات: فإن قيل: هؤلاء لم يُثْبِتُوا البُنُوَّة بين المرتضِع وبين الفحل، فلم تثبتِ المصاهرةُ، لأنها فرع ثبوتِ بُنُوَّةِ الرَّضاع، فإذا لم تثبت له، لم يثبت فَرْعُهَا، وأما من أَثَبَتَ بُنُوَّةَ الرضاعِ من جهة الفحل كما دلت عليه السُّنَّة الصحيحة الصريحة، وقال به جمهور أهل الإسلام، فإنه تَثْبُتُ المصاهرة بهذه البنوة، فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل: إن زوجة أبيه وابنهِ من الرضاعة لا تحرم؟ قيل: المقصود أن في تحريم هذه نزاعاً، وأنه ليس مجمعاً عليه، وبقى النظرُ في مأخذه، هل هو إلغاء لبن الفحل، وأنه لا تأثير له، أو إلغاء المصاهرة من جهة الرَّضاع، وأنه لا تأثير لها، وإنما التأثير لمصاهرة النسب؟ ولا شك أن المأخذ الأول باطل، لثبوت السُّنَّة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل، وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثباتُ المصاهرة به إلا بالقياس، وقد تقدَّمَ أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعافِ الجامع، وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب، ثبوت حكم آخر. ويدل على هذا أيضاً أنه سبحانه لم يجعل أُمَّ الرَّضاع، وأخت الرَّضاعة داخلةً تحت أُمَّهاتنا وأخوَاتنا، فإنه سبحانه قال: ومما يدل على أن تحريم امرأةِ أبيه وابنه مِنَ الرَّضاعةِ ليس مسألةَ إجماع، أنه قد ثبت عن جماعة من السلف جوازُ نِكاح بنتِ امرأتهِ إذا لم تكن في حجْرِهِ، كما صحَّ عن مالك بن أوس بن الحدثان النَّصْرى، قال: كانت عندى امرأة، وقد ولدت لى، فتوفيتْ، فَوَجِدْتُ عليها، فَلَقِيتُ علىَّ بنَ أبى طالب رضى اللَّه عنه، قال لى: مالك؟ قلتُ: توفيت المرأةُ، قال: لها ابنةٌ؟ قلت: نعم، قال: كانت في حَجْرِك؟ قلت: لا، هي في الطائف. قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى: الحكم الثانى: المستفاد من هذه السُّنَّة، أَنَّ لبن الفحل يُحَرِّم، وأن التحريمَ ينتشِرُ مِنه كما ينتشِر من المرأة، وهذا هو الحقُّ الذي لا يجوز أن يُقال بغيره، وإن خالف فيه مَنْ خالفَ من الصحابة ومَنْ بَعْدَهُم، فَسُنَّةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحَقُّ أن تُتَّبَعَ، ويتركَ ما خالفها لأجلها، ولا تُتْرَكُ هي لأجل قولِ أحد كائناً مَنْ كان. ولو تُركت السُّنَنُ لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويلها، أو غير ذلك، لَتُرِكَ سُنَنٌ كثيرة جداً، وتُركت الحجَّةُ إلى غيرها، وقولُ من يجب اتّباعه إلى قول من لا يجب اتِّباعه، وقولُ المعصوم إلى قولِ غيرِ المعصوم، وهذه بلية، نسأل اللَّه العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة. قال الأعمش: كان عِمارة، وإبراهيم، وأصحابُنا لا يَرَوْنَ بلبن الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم بنُ عُتَيْبَة بخبر أبى القُعَيس، يعنى: فتركوا قولَهم، ورجعوا عنه، وهكذا يَصْنَعُ أهلُ العلم إذا أتَتْهُم السُّنَّةُ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رجعوا إليها، وتركوا قولَهم بغيرها. قال الذين لا يحرِّمون بلبن الفحل: إنما ذكر اللَّهُ سبحانه في كتابه التحريم بالرضاعة مِنَ جهة الأم، فقال قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابةُ رضى اللَّه عنهم، قالوا: ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل. قال الجمهور: ليس فيما ذكرتم ما يُعارضُ السُّنَّة الصحيحة الصريحة، فلا يجوزُ العدولُ عنها. أمَّا القرآن، فإنه بينَ أمرين: إما أن يتناولَ الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالاً على تحريمها، وإما أن لا يتناولَها فيكون ساكتاً عنها، فيكون تحريمُ السُّنَّة لها تحريماً مبتدءاً ومخصصاً لعموم قوله: فالسُّنَّة بينتْ مرادَ الكتاب، لا أنها خالفته، وغايتُها أن تكونَ أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه، أو تَخصيص ما لم يرد عمومه. وأما قولكم: إن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يرون التحريمَ بذلك، فدعوى باطلة على جميع الصحابة، فقد صح عن على رضى اللَّه عنه إثبات التحريمِ به، وذكر البخارى في (صحيحه) أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتانِ أرضعت إحداهما جاريةً، والأخرى غلاماً، أيحِلُّ أن يَنْكَحَهَا؟ فقال ابنُ عباس: لا، اللقاحُ واحد، وهذا الأثر الذي استدللتم به صريح عن الزبير أنه كان يعتقدُ أن زينبَ ابنته بتلك الرضاعة، وهذه عائشةُ أُمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها كانت تُفتى: أن لبن الفحل ينشُرُ الحرمة، فلم يَبْقَ بأيديكم إلا عبدُ اللَّه بنُ الزبير، وأين يَقَعُ من هؤلاء. وأما الذين سَألتهُم فأفتوها بالحل، فمجهولون غيرُ مَسَمَّين، ولم يقلِ الراوى: فسألت أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون، بل لعلها أرسلتْ فسألت من لم تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ الصحيحة منهم، فأفتاها بما أفتاها به عبد اللَّه بن الزبير، ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بالمدينة، بل كان معظمهم وأكابرُهم بالشام والعراق ومصر. وأما قولكم: إن الرَّضاعة إنما هي من جهة الأم، فالجواب أن يقال: إنما اللبنُ للأب الذي ثار بوطئه، والأم وعاء له، وباللَّه التوفيق. فإن قيل: فهل تَثْبت أبُوَّةُ صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة، أو ثبوتُ أُبُوَّتهِ فرع على ثبوت أمومة المرضعة؟ قيل: هذا الأصلُ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعى، وعليه مسألة من له أربعُ زوجات، فأرضعنَ طفلةً كُلُّ واحدةٍ منهن رَضْعتين، فإنهن لا يَصِرْنَ أماً لها، لأن كل واحدة منهن لم تُرضِعْها خمس رَضَعَات. وهل يصير الزوج أباً للطفلة؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يصير أباً، كما لم تَصِر المرضعاتُ أُمَّهاتٍ، والثانى وهو الأصح: يصير أباً، لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رَضَعَات، ولبنُ الفَحْل أصلٌ بنفسه، غير متفرِّع على أمومة المرضعة، فإن الأبوةَ إنما تثبُت بحصول الارتضاع من لبنه، لا لِكون المرضعة أمه، ولا يجىءُ على أَصْلَىْ أبى حنيفة ومالك، فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرِّم، فالزوجاتُ الأربع أمهات للمرتضِع، فإذا قلنا بثبوت الأُبُوَّةِ وهو الصحيح، حَرُمَتِ المرضعاتُ على الطفل، لأنه ربيبُهنَّ، وهُنَّ موطوءات أبيه، فهو ابنُ بَعْلهِنَّ. وإن قلنا: لا تثُبت الأْبُوَّةُ لم يَحْرُمْنَ عليه بهذا الرضاع. وعلى هذه المسألة: ما لو كان لِرجل خمسُ بناتٍ، فأرضعنَ طفْلاً، كلُّ واحدة رَضْعَة، لم يَصِرْنَ أمهاتٍ له. وهل يصير الرجل جداً له، وأولاده الذين هم إخوةُ المرضِعات أخوالاً له وخالات؟ على وجهين، احدهما: يصير جداً، وأخوهن خالاً، لأنه قد كَملَ المرتضِع خمسَ رَضَعَاتٍ من لبن بناته، فصار جَدّاً، كما لو كان المرتضِع بنتاً واحدة. وإذا صار جَدّاً كان أولادُه الذين هُم إخوةُ البنات أخوالاً وخالات، لأنهن إخوةُ من كمل له منهن خمسُ رَضَعتَات، فنزلوا بالنسبة إليه منزلةَ أم واحدة، والآخر لا يصيرُ جَداً، ولا أخواتُهن خالاتٍ، لأن كونَه جداً فرعٌ على كونِ ابنته أمَّاً، وكونُ أخيها خالاً فرع على كون أُخته أمّاً، ولم يثبتِ الأصل، فلا يثُبت فرعُه، وهذا الوجه أصحُّ في هذه المسألة، بخلاف التي قبلَها، فإن ثبوت الأُبُوَّةِ فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح. والفرقُ بينهما: أن الفرعية متحققة في هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن، فإنهنَّ بناتُه، واللبن ليس له، فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها، فإذا لم تكن أُمًّا، لم يكن أبوها جَدَّاً، بخلافِ تلك، فإن التحريم بينَ المرتضِع وبينَ صاحب اللبن، فسواءٌ ثبتت أمومةُ المرضعة أولا، فعلى هذا إذا قلنا: يصير أَخُوهنَّ خالاً، فهل تكون كل واحدة منهن خالةً له؟ فيه وجهان. أحدهما: لا تكون خالةً، لأنه لم يرتضِعْ من لبن أخواتِهَا خمس رضعات، فلا تثبت الخؤولة. والثانى: تثبت، لأنه قد اجتمع من اللبن المحرِّم خمس رضعات، وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتاً للخؤولة، ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات، ولا يستبعدُ ثبوت خؤولة بلا أمومة، كما ثبت في لبن الفحل أبوة بلا أمومة، وهذا ضعيف. والفرق بينهما. أن الخؤولة فرع محض على الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل، فكيف يثُبت فرعُه؟ بخلاف الأبوة والأُمومة، فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاه أحدهما انتفاء الآخر. وعلى هذا مسألة، ما لو كان لرجل أُم، وأخت، وابنة، وزوجةُ ابن، فأرضعن طِفْلَةً كُلُّ واحدة منهن رَضْعَة، لم تَصِرْ واحدةٌ منهن أمها، وهل تحرم على الرجل؟ على وجهين. أوجههما: ما تقدم. والتحريمُ ههنا بعيد، فإن هذا اللبن الذي كمل للطفل لا يجعل الرجل أباً له، ولا جداً، ولا أخاً، ولا خالاً، واللَّه أعلم. وقد دلّ التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة مِن ماء الزانى دلالةَ الأولى والأحْرى، لأنه إذا حرم عليه أن ينكِحَ من قد تغذَّت بلبن ثار بوطئه، فكيف يَحِلُّ له أن ينكِحَ من قد خُلِقَ مِن نفس مائة بوطئه؟ وكيف يحرِّم الشارعُ بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سبباً فيه، ثم يُبيح له نكاحَ مَنْ خُلِقَتْ بنفسِ وطئه ومائة؟ هذا من المستحيل، فإن البَعْضِيَّةَ التي بينه وبينَ المخلوقة مِن مائة أكملُ وأتمُّ مِن البَعْضِيَّة التي بينَه وبين من تغذَّت بلبنه، فإن بنت الرضاع فيها جزء ما من البعضية، والمخلوقة من مائة كاسمها مخلوقة مِن مائة، فنصفُها أو أكثرها بعضُه قطعاً، والشطرُ الآخر للأم، وهذا قولُ جمهورِ المسلمين، ولا يُعرف في الصحابة من أباحها، ونص الإمام أحمد رحمه اللَّه، على أن من تزوَّجها، قُتِلَ بالسيف محصناً كان أو غيره. وإذا كانت بنتُه من الرضاعة بنتاً في حكمين فقط: الحرمة، والمحرمية، وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تُخرجها عن التحريم، وتُوجب حِلها، فكذا بنتُه مِن الزنى تكون بنتاً في التحريم. وتخلُّفُ أحكامِ البنت عنها لا يُوجب حلها، واللَّه سبحانه خاطب العرب بما تعقِلُه في لغاتِها، ولفظ البنت لفظ لغوى لم ينقلْه الشارع عن موضعه الأصلى، كلفظ الصلاة والإيمان ونحوهما، فَيُجملُ على موضوعه اللغوى حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره، فلفظُ البنتِ كلفظِ الأخ والعم والخال ألفاظٌ باقية على موضوعاتها اللغوية. وقد ثبت في (الصحيح) أن اللَّه تعالى أنطق ابنَ الراعى الزانى بقوله: (أبى فُلانٌ الرَّاعى)، وهذا الإنطاقُ لا يحتمِلُ الكذب، وأجمعت الأمةُ على تحريم أمِّه عليه. وخلقُه من مائها، وماء الزانى خلقٌ واحد، وإثمهُما فيه سواء، وكونه بعضاً له مثلُ كونه بعضاً لها، وإنقطاع الإرث بين الزانى والبنت لا يُوجب جوازَ نكاحها، ثم مِن العجب كيف يُحَرِّمُ صاحبُ هذا القول أن يستمنىَ الإنسان بيده، ويقول: هو نكاحٌ لِيده، ويُجوِّزُ للإنسان أن ينكحَ بعضَه، ثم يُجوِّزُ له أن يستفرِشَ بعضه الذي خَلَقَهُ اللَّه مِن مائه، وأخرجَهُ مِن صُلبه،كما يستفرش الأجنبية. والحكم الثالث: أنه لا تُحرم المصةُ والمصَّتَانِ، كما نص عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يُحرِّمُ إلا خمسُ رضعات، وهذا موضع اختلف فيه العلماء. فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم بقليل الرضاع وكثيرة، وهذا يروى عن على وابن عباس، وهو قولُ سعيد بن المسيب، والحسن والزهرى، وقتادة، والحكم، وحماد، والأوزاعى، والثورى، وهو مذهبُ مالك، وأبى حنيفة، وزعم الليثُ بنُ سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يُحرِّم في المهد ما يُفْطِرُ به الصائم، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه اللَّه. وقالت طائفة أخرى: لا يثبُت التحريمُ بأقلَّ مِن ثلاث رضعات، وهذا قولُ أبى ثور، وأبى عبيد، وابن المنذر، وداود بن على، وهو روايةٌ ثانية عن أحمد. وقالت طائفة أخرى: لا يثُبت بأقلَّ مِن خمس رضعات، وهذا قول عبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن الزبير، وعطاء، وطاووس، وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضى اللَّه عنها، والرواية الثانية عنها: أنه لا يحرم أقل من سبع، والثالثة: لا يحرم أقل من عشر. والقول بالخمس مذهب الشافعى، وأحمد في ظاهر مذهبه، وهو قولُ ابن حزم، وخالف داود في هذه المسألة. فحجةُ الأولين أنه سبحانه علَّقَ التحريم باسم الرضاعة، فحيث وجد اسمُها وُجدَ حكمُها، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قال: (يحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) وهذا موافق لإطلاق القرآن. وثبت في (الصحيحين)، عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أمّ يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قدأرضعتُكما، فذكر ذلك للنبىِّ صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنى، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، قال: (وكيْف وقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُما فنهاهُ عنها)، ولم يسأل عن عدد الرضاع، قالوا: ولأنه فعل يتعلق به التحريم، فاستوى قليلهُ وكثيره، كالوطء الموجب له، قالوا: ولأن إنشاز العظم، وإنبات اللحم يحصُل بقليله وكثيره. قالُوا: ولأن أصحابَ العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها، واضطربت أشدَّ الاضطراب، وما كان هكذا لم يجعله الشارعُ نصاباً لِعدم ضبطه والعلم به. قال أصحابُ الثلاث: قد ثبت عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تُحرِّمُ المصَّةُ والمصَّتان)، وعن أم الفضل بنتِ الحارث قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاَجَتَانِ). وفى حديث آخر: أن رجلاً قال: يا رسولَ اللَّه، هل تُحَرِّمُ الرضعةُ الواحِدة؟ قال: (لا). وهذه أحاديث صحيحة صريحة، رواها مسلم في (صحيحه)، فلا يجوز العدولُ عنها فأثبتنا التحريمَ بالثلاث لِعموم الآية، ونفينا التحريمَ بما دونها بصريحِ السنة قالُوا: ولأن ما يُعتبر فيه العدد والتكرارُ يُعتبر فيه الثلاث. قالوا: ولأنها أولُ مراتب الجمع، وقد اعتبرها الشارعُ في مواضع كثيرة جداً. قال أصحابُ الخمسِ: الحجةُ لنا ما تقدَّم في أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وقد أخبرت عائشة رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفى والأمرُ على ذلك، قالُوا: ويكفى في هذا قولُ النبى صلى الله عليه وسلم لِسهلة بنت سهيل: (أَرضِعِى سَالِماً خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِى عَلَيْهِ). قالُوا: وعائشة أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة هي ونساءُ النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشةُ رضى اللَّه عنها إذا أرادت أن يدْخُلَ عليها أحد أمرت إحدى بَنَاتِ إخوتِها أو أخواتِها فأرضعتهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ. قالوا: ونفىُ التحريم بالرضعة والرضعتين صريحٌ في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيرة، وهى ثلاثةُ أحاديث صحيحة صريحة بعضُها خرج جواباً للسائل، وبعضُها تأسيسُ حكم مبتدأ. قالُوا: وإذا علقنا التحريمَ بالخمس، لم نكن قد خالفنا شيئاً من النصوص التي استدللتُم بها، وإنما نكونُ قد قيدنا مطلقها بالخمس، وتقييدُ المطلقِ بيانٌ لا نسخ ولا تخصيصٌ. وأما من علَّق التحريمَ بالقليل والكثير، فإنه يُخالف أحاديثَ نفى التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحبُ الثلاث، فإنه وإن لم يُخالفها، فهو مخالفٌ لأحاديث الخمس. قال من لم يُقيده بالخمس: حديثُ الخمس لم تنقله عائشةُ رضى اللَّه عنها نقلَ الأخبار، فيحتج به، وإنما نقلته نقل القرآن، والقرآن إنما يثُبت بالتواتر، والأمة لم تنقل ذلك قرآناً، فلا يكون قرآناً، وإذا لم يكن قرآناً ولا خبراً، امتنع إثباتُ الحكم به. قال أصحابُ الخمس: الكلامُ فيما نقل مِن القرآن آحاداً في فصلين، أحدهما: كونُه من القرآن، والثانى: وجوبُ العمل به، ولا ريبَ أنهما حكمان متغايران، فإن الأول يُوجب انعقادَ الصلاة به، وتحريمَ مسه على المحدث، وقراءتهِ على الجنبِ، وغير ذلك من أحكام القرآن، فإذا انتفت هذه الأحكامُ لعدم التواتر، لم يلزم انتفاءُ العمل به، فإنه يكفى فيه الظَّنُّ، وقد احتجًَّ كُلُّ واحد من الأئمةِ الأربعة به في موضع، فاحتج به الشافعى وأحمد في هذا الموضع، واحتج به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود (فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات). واحتج به مالك والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبى، (وإن كان رجل يُورث كلالة، أو امرأة وله أخ، أو أخت من أم، فلكل واحد منهما السدس)، فالناسُ كلهم احتجُّوا بهذه القراءة، ولا مستند للإجماع سواها. قالوا: وأما قولُكم إما أن يكون نقله قرآناً أو خبراً، قلنا: بل قرآناً صريحاً. قولُكم: فكان يجب نقله متواتراً، قلنا: حتى إذا نسخ لفظُه أو بقى، أما الأول، فممنوع، والثانى، مسلَّم، وغايةُ ما في الأمر أنه قرآن نُسِخَ لفظُه، وبقى حكمه، فيكونُ له حكمُ قوله: (الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجمُوهما) مما اكتفىَ بنقله آحاداً، وحكمُه ثابت، وهذا مما لا جواب عنه. وفى المسألة مذهبان آخران ضعيفان. أحدهما: أن التحريم لا يثبت بأقلَّ مِن سبع، كما سئل طاووس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات، فقال: قد كان ذلك، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرة الواحدة تُحرِّمُ، وهذا المذهب لا دليل عليه. الثانى: التحريمُ إنما يثبتُ بعشر رضعات، وهذا يُروى عن حفصة وعائشة رضى اللَّه عنهما. وفيها مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وغيرهن قال طاووس: كان لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم رضعات محرمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم تُرِكَ ذلك بعد، وقد تبين الصحيحُ من هذه الأقوال، وباللَّه التوفيق. فإن قيل: ما هي الرضعةُ التي تنفصلُ من أختها، وما حدُّها؟ قيل: الرضعةُ فعلة مِن الرضاع، فهى مرة منه بلا شك، كضربة وجلسة وأكلة، فمتى التقم الثدىَ، فامتصَّ منه ثم تركه باختياره مِن غير عارض كان ذلك رضعة، لأن الشرع ورد بذلك مطلقاً، فحُملَ على العُرف، والعُرف هذا، والقطعُ العارضُ لتنفس أو استراحة يسيرة، أو لشىء يلهيه ثم يعودُ عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة، هذا مذهب الشافعى، ولهم فيما إذا قطعت المرضعةُ عليه، ثم أعادته وجهان. أحدهما: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مراراً حتى يقطع بإختياره، قالُوا: لأن الاعتبار بفعله لا بفعل المرضعة، ولهذا لو ارْتَضَع منها وهى نائمة حُسِبَت رضعة، فإذا قطعت عليه، لم يُعتد به، كما لو شرع في أكلة واحدة أمره بها الطبيبُ، فجاء شخص فقطعها عليه، ثم عاد، فإنها أكلة واحدة. والوجه الثانى: أنها رضعة أخرى، لأن الرضاعَ يَصِحُّ من المرتضع، ومن المرضعة، ولهذا لو أَوْجَرَتْهُ وهو نائم احتسِبَ رضعة. ولهم فيما إذا انتقل من ثدى المرأة إلى ثدى غيرها وجهان. أحدهما: لا يعتد بواحد منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة، فلم تتم الرضعة من إحداهما. ولهذا لو انتقل من ثدى المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعةً واحدةً. والثانى: أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة، لأنه ارتضع، وقطعه بإختياره من شخصين. وأما مذهبُ الإمام أحمد رحمه اللَّه، فقال صاحب (المغنى): إذا قطع قطعاً بيناً بإختيارهِ، كان ذلك رضعة، فإن عاد كان رضعةً أخرى، فأما إن قطع لِضيق نفس، أو للانتقال من ثدى إلى ثدى، أو لشىء يُلهيه، أو قطعت عليه المرضعة، نظرنا، فإن لم يَعُدْ قريباً، فهى رضعة وإن عاد في الحال، ففيه وجهان، أحدهما: أن الأولى رضعة، فإذا عاد فهى رضعة أخرى، قال: وهذا اختيار أبى بكر، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل، فإنه قال: أما ترى الصبى يرتضع من الثدى، فإذا أدركه النَّفسُ، أمسكَ عن الثدى ليتنفس، أو ليستريح، فإذا فعل ذلك، فهى رضعة، قال الشيخ: وذلك أن الأولى رضعةٌ لو لم يعد، فكانت رضعة، وإن عاد، كما لو قطع بإختياره. والوجه الآخر أن جميع ذلك رضعة، وهو مذهب الشافعى إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة، ففيه وجهان، لأنه لو حلف: لا أكلتُ اليومَ إلا أكلةً واحدةً، فاستدام الأكلُ زمناً، أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون، أو انتظار لما يُحمل إليه من الطعام لم يُعدّ إلا أكلة واحدة فكذا ههنا، والأول أصح، لأن اليسير من السعوط والوَجُور رضعة، فكذا هذا. قلتُ، وكلامُ أحمد يحتملُ أمرين، أحدهما: ما ذكره الشيخ، ويكون قوله: (فهى رضعة)، عائداً إلى الرضعة الثانية. الثانى: أن يكون المجموعُ رضعة، فيكون قوله: (فهى رضعة) عائداً إلى الأول، والثانى، وهذا أظهر محتمليه، لأنه استدل بقطعه للتنفس، أو الاستراحة على كونها رضعة واحدة. ومعلوم أن هذا الاستدلال أليقُ بكون الثانية مع الأول واحدة من كون الثانية رضعةً مستقلة، فتأمله. وأما قياسُ الشيخ له على يسير السَّعوط والوَجور، فالفرقُ بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعاً لرضعة قبله، ولا هو مِن تمامها، فيقال: رضعة بخلاف مسألتنا، فإن الثانية تابعة للأولى، وهى من تمامها فافترقا. والحكم الرابع: أن الرضاع الذي يتعلَّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام في زمن الارتضاع المعتاد، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال الشافعى، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: هو ما كان في الحولين، ولا يُحَرَّمُ ما كان بعدهما، وصح ذلك عن عمر، وابنِ مسعود، وأبى هريرة، وابن عباس، وابن عمر، ورُوى عن سعيد بن المسيِّب، والشعبى وابن شُبْرُمَةَ، وهو قولُ سفيان. وإسحاق وأبى عُبيد، وابنِ حزم، وابنِ المنذر، وداود، وجمهور أصحابه. وقالت طائفة: الرضاعُ المحرم ما كان قبل الفطام، ولم يحدوه بزمن، صحَّ ذلك عن أم سلمة، وابن عباس ورُوى عن على، ولم يصح عنه، وهو قولُ الزهرى، والحسن، وقتادة، وعِكرمة، والأوزاعى. قال الأوزاعى: إن فُطمَ وله عام واحد واستمر فِطامُه، ثم رضع في الحولين، لم يُحَرِّم هذا الرضاعُ شيئاً، فإن تمادى رضاعُه ولم يُفطم، فما كان في الحولين فإنه يُحرِّمُ. وما كان بعدهما، فإنه لا يُحرِّمُ، وإن تمادى الرضاعُ. وقالت طائفة: الرضاعُ المحرِّمُ ما كان في الصغر، ولم يوقته هؤلاء بوقت، وروى هذا عن ابن عمر، وابن المسيِّب، وأزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلا عائشة رضى اللَّه عنها. وقال أبو حنيفة وزفر: ثلاثون شهراً، وعن أبى حنيفة رواية أخرى، كقول أبى يوسف ومحمد. وقال مالك في المشهور من مذهبه: يُحرِّمُ في الحولين، وما قاربهما، ولا حُرمة له بعد ذلك. ثم روى عنه اعتبارُ أيام يسيرة، وروى عنه شهران. وروى شهر، ونحوه. وروى عنه الوليدُ بن مسلم وغيره: أن ما كان بعدَ الحولين مِن رضاعِ بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه عندى من الحولين، وهذا هو المشهورُ عند كثير من أصحابه. والذي رواهُ عنه أصحابُ الموطأ وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه: وما كان مِن الرضاع بعد الحولين كان قليلُه وكثيرُه لا يُحرِّمُ شيئاً، إنما هو بمنزلة الطعام، هذا لفظه. وقال: إذا فُصلَ الصبى قبلَ الحولين، واستغنى بالطعام عن الرِّضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة. وقال الحسنُ بن صالح، وابن أبى ذِئب وجماعةٌ من أهل الكوفة: مدةُ الرضاع المُحرِّم ثلاثُ سنين، فما زاد عليها لم يُحرم، وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: مدته إلى سبعِ سنين، وكان يزيدُ بن هارون يحكيه عنه كالمتعجِّبِ من قوله. وروى عنه خلافُ هذا، وحَكَى عنه ربيعة، أن مدته حولان، واثنا عشر يوماً. وقالت طائفة من السلف والخلف: يحرمُ رضاع الكبير، ولو أنه شيخ، فروى مالك، عن ابن شهاب، أنه سئل عن رضاع الكبير، فقال: أخبرنى عروة بن الزبير، بحديثِ أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم، ففعلت، وكانت تراه ابناً لها. قال عروةُ: فأخذت بذلك عائشة أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها فيمن كانت تُحبُّ أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختَها أمّ كلثوم، وبنات أخيها يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج، قال: سمعتُ عطاء بن أبى رباح وسأله رجلٌ فقال: سقتنى امرأةٌ من لبنها بعد ما كنت رجلاً كبيراً. أفأنكِحُها؟ قال عطاء: لا تَنْكِحْهَا، فقلت له: وذلك رأيُك؟ قال: نعم، كانت عائشة رضى اللَّه عنها تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا قولُ ثابت عن عائشة رضى اللَّه عنها. ويروى عن على، وعروة بن الزبير. وعطاء بن أبى رباح، وهو قولُ الليث بن سعد، وأبى محمد ابن حزم، قال: ورضاعُ الكبير ولو أنه شيخ يُحرِّمُ كما يحرِّم رضاع الصغير. ولا فرق، فهذه مذاهب الناس في هذه المسألة. ولنذكر مناظرةَ أصحاب الحولين، والقائلين برضاع الكبير، فإنهما طرفان، وسائر الأقوال متقاربة. قال أصحابُ الحولين: قال اللَّه تعالى: قالوا: ولو كان رضاعُ الكبير محرِّماً لما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد تغيَّر وجهُه، وكَرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآهُ كبيراً: (انظُرنَ مَنْ إخوانكن) فلو حرَّم رَضَاع الكبير، لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: (انظرن مَن إخوانُكن) ثم قال: (فإنَّما الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَة) وتحتَ هذا من المعنى خشيةَ أن يكونَ قد ارتضع في غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخاً. قالوا: وأما حديثُ سهلة في رضاع سالم، فهذا كان في أوَّل الهجرة لأن قصته كانت عقيبَ نزول قوله تعالى: وأما أحاديث اشتراط الصغر، وأن يكون في الثدى قبل الفطام، فهى من رواية ابن عباس، وأبى هريرة، وابنُ عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح، وأبو هريرة إنما أسلم عامَ فتح خيبر بلا شك، كِلاهُما قدم المدينة بعد قصة سالم في رضاعه من امرأة أبى حذيفة. قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ: قد صحَّ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم صحة لا يمترى فيها أحد أنه أمر سهلة بنتَ سُهيل أن تُرْضِع سالماً مولى أبى حذيفة، وكان كبيراً ذا لحية، وقال: (أَرْضعِيهِ تَحْرُمى)، ثم ساقوا الحديث، وطرقَهَ وألفاظَه وهى صحيحةٌ صريحة بلا شك. ثم قالوا: فهذه الأخبارُ ترفع الإشكال، وتُبين مراد اللَّه عز وجل في الآيات المذكوراتِ أن الرضاعة التي تَتِمُّ بتمام الحولين، أو بتراضى الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحاً للرضيع، إنما هي الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة، والتي يُجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولقد كان في الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال: قالُوا: وقولُ سهلة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أرضِعهُ وهو رجل كبير؟ بيان جلى أنه بعد نزول الآيات المذكورات. قالُوا: ونعلم يقيناً أنه لو كان ذلك خاصاً بسالم، لقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإلحاق، نص على أنه ليس لأحد بعده، كما بيَّن لأبى بُردة بن نيار، أن جذعته تُجزىْء عنه، ولا تجزىْء عن أحد بعده.. وأين يقعُ ذبح جَذعةٍ أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حلُّ الفرج وتحريمه، وثبوت المحرمية، والخلة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم قطعاً، أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصاً. قالوا: وقول النبى صلى الله عليه وسلم (إنَّما الرّضاعةُ من المَجَاعَةِ) حجة لنا، لأن شُرب الكبير للبن يُؤثر في دفع مجاعته قطعاً، كما يُؤثر في الصغير أو قريباً منه. فإن قلتم: فما فائدة ذكره إذا كان الكبيرُ والصغيرُ فيه سواء؟ قلنا: فائدتُه إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن، أو المصَّة الواحدة التي لا تُغنى من جوع، ولا تُنبت لحماً، ولا تُنشز عظماً. قالوا: وقولُه صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين، وكان في الثدى قبلَ الفطام) ليس بأبلغَ مِن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلاّ في النسيئة)، (وإنما الربا في النسيئة)، ولم يمنع ذلك ثبوتُ ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه، فكذا هذا. فأحاديثُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسنُنه الثابتة كُلُّهَا حق يجب اتباعُها لا يضرب بعضها ببعض، بل تستعمل كلاً منها على وجهه. قالوا: ومما يدلُّ على ذلك أن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها، وأفقه نساء الأمة هي التي روت هذا وهذا، فهى التي روت: (إنَّماالرَضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ) وروت حديث سهلة، وأخذت به فلو كان عندها حديث (إنما الرضاعة من المجاعة) مخالفاً لحديث سهلة، لما ذهبت إليه وتركت حديثاً واجهها به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتغيَّرَ وجهه، وكره الرجل الذي رآه عندها، وقالت: هو أخى. قالوا: وقد صحَّ عنها أنها كانت تُدْخلُ عليها الكبير إذا أرضعته في حال كبره أختٌ مِن أخواتها الرضاع المُحَرم، ونحن نشهدُ بشهادة اللَّه، ونقطع قطعاً نلقاه به يوم القيامة، أن أمّ المؤمنين لم تكن لِتبيحَ سِترَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهِكُه من لا يَحِلُّ له انتهاكُه، ولم يكن اللَّه عز وجل ليبيح ذلك على يدِ الصِّديقة المبرأةِ من فوق سبع سَمَاوات، وقد عصم اللَّه سبحانه ذلك الجنابَ الكريم، والحمى المنيع، والشرفَ الرفيع أتمَّ عِصمة، وصانه أعظمَ صيانة، وتولَّى صيانته وحمايتَه، والذبَّ عنه بنفسه ووحيه وكلامه، قالوا: فنحن نُوقِنُ ونقطعُ، ونَبُتُّ الشهادة للَّه، بأن فعلَ عائشة رضى اللَّه عنها هو الحقُّ، وأن رضاعَ الكبير يقع به من التحريم والمحرميةِ ما يقع برضاع الصغير، ويكفينا أمُّنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وقد كانت تُناظر في ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم، ولا يُجِبْنَها بغيرِ قولهن: ما أحدٌ داخلٌ علينا بتلك الرضاعة، ويكفينا في ذلك أنه مذهبُ ابن عم نبينا، وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة، ومذهبُ الليث بن سعد الذي شهد له الشافعى بأنه كان أفقه من مالك، إلا أنه ضيَّعهُ أصحابُه، ومذهبُ عطاء بن أبى رباح ذكره عبدُ الرزاق عن ابن جريج عنه. وذكر مالك عن الزهرى، أنه سُئلَ عن رضاع الكبير، فاحتج بحديثِ سهلة بنت سهيل في قصة سالم مولى أبى حذيفة، وقال عبد الرزاق: وأخبرنى ابن جريج، قال: أخبرنى عبد الكريم، أن سالم ابن أبى جعد المولى الأشجعى أخبره أن أباه أخبره، أنه سأل على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه فقال: أردت أن أتزوَّج امرأة قد سقتنى من لبنها وأنا كبير تداويتُ به، فقال له على: لا تَنْكِحْهَا، ونهاه عنها. فهؤلاء سلفنا في هذه المسألة، وتلك نصوصنا كالشمسِ صحة وصراحة. قالوا: وأصرحُ أحاديثكم حديثُ أم سلمة ترفعه: (لا يُحَرِّمُ مِن الرّضَاعِ إلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ في الثَّدْى وكَانَ قَبْلَ الفِطَام) فما أصرحه لو كان سليماً من العلة، لكن هذا حديثٌ منقطع، لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئاً، لأنها كانت أسنَّ مِن زوجها هشام باثنى عشر عاماً، فكان مولده في سنة ستين، ومولد فاطمة في سنة ثمان وأربعين، وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، وفاطمة صغيرة لم تبلغها، فكيف تحفظُ عنها، ولم تسمعْ مِن خالة أبيها شيئاً وهى في حَجْرها، كما حصل سماعُها من جدتها أسماء بنت أبى بكر؟ قالوا: وإذا نظر العالمُ المنصف في هذا القول، ووازن بينه وبينَ قول من يحدد مدةَ الرضاع المُحرِّمِ بخمسة وعشرين شهراً، أو ستة وعشرين شهراً أو سبعة وعشرين شهراً، أو ثلاثين شهراً من تلك الأقوال التي لا دليل عليها مِن كتاب اللَّه، أو سُنة رسوله، ولا قوِلِ أحد من الصحابة، تبيَّن له فضلُ ما بين القولين، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة، ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهى قوتُه إلى هذا الحد، وأنه ليس بأيدى أصحابه قدرةٌ على تقديره وتصحيحه، فاجلس أيها العالمُ المنصف مجلِسَ الحَكَم بين هذين المتنازعين، وافصل بينهما بالحجةِ والبيان لا بالتقليد، وقال فلان. واختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك، أحدها: أنه منسوخ، وهذا مسلكُ كثير منهم، ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يُمكنهم إثباتُ التاريخ المعلوم التأخر بينه وبينَ تلك الأحاديث. ولو قلَبَ أصحابُ هذا القول عليهم الدعوى، وادعوا نسخَ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظيرَ دعواهم. وأما قولهم: إنها كانت في أوَّلِ الهجرة، وحين نزول قوله تعالى: الثانى: أن نساء النبىِّ صلى الله عليه وسلم لم تحتج واحدةٌ منهن، بل ولا غيرُهن على عائشة رضى اللَّه عنها بذلك، بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم، وعدم إلحاق غيره به. الثالث: أن عائشةَ رضى اللَّه عنها نفسَها روت هذا وهذا، فلو كان حديثُ سهلة منسوخاً، لكانت عائشةُ رضى اللَّه عنها قد أخذت به، وتركتِ الناسخَ، أو خفى عليها تقدُّمه مع كونها هي الراوية له، وكلاهما ممتنع، وفى غاية البعد. الرابع: أن عائشةَ رضى اللَّه عنها ابتُليت بالمسألة، وكانت تعمَلُ بها، وتُناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتِها فلها بها مزيدُ اعتناء، فكيف يكون هذا حُكماً منسوخاً قد بطل كونهُ من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساءِ النبى صلى الله عليه وسلم فلا تذكُرُه لها واحدةٌ منهن. المسلك الثانى: أنه مخصوص بسالم دون من عداه، وهذا مسلك أمِّ سلمة ومَنْ معها من نساء النبى صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعهن، وهذا المسلكُ أقوى مما قبله، فإن أصحابه قالوا مما يُبين اختصاصَه بسالم أن فيه: أن سهلة سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب، وهى تقتضى أنه لا يَحِلُّ للمرأة أن تُبدى زينتها إلا لمن ذكر في الآية وسُمِّىَ فيها، ولا يُخص من عموم من عداهم أحد إلا بدليل. قالُوا: والمرأة إذا أرضعت أجنبياً، فقد أبدت زينتها له، فلا يجوزُ ذلك تمسكاً بعموم الآية، فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاصٌّ به. قالوا: وإذا أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم واحداً مِن الأمة بأمر، أو أباح له شيئاً أو نهاه عن شىء وليس في الشريعة ما يُعارضه ثبت ذلك في حق غيره من الأمة ما لم ينصَّ على تخصيصه، وأما إذا أمر الناس بأمرٍ، أو نهاهم عن شىء، ثم أمر واحداً من الأمة بخلاف ما أمرَ به الناس، أو أطلقَ له ما نهاهم عنه، فإن ذلك يكون خاصاً به وحدَه، ولا يقولُ في هذا الموضع: إن أمره للواحد أمرٌ للجميع، وإباحته. للواحد إباحةٌ للجميع، لأن ذلك يُؤدى إلى إسقاط الأمر الأول، والنهى الأول، بل نقول: إنه خاص بذلك الواحد لتتفق النصوصُ وتأتلفَ ولا يُعارض بعضها بعضاً، فحرم اللَّه في كتابه أن تبدىَ المرأةُ زينتها لغير مَحْرَمٍ، وأباح رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لسهلة أن تُبدى زينتها لسالم وهو غيرُ مَحْرَمٍ عند إِبداء الزينة قطعاً، فيكون ذلك رخصةً خاصة بسالم، مستثناة من عموم التحريم، ولا نقول: إن حكمها عام، فيبطل حكم الآية المحرمة. قالوا: ويتعيَّن هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه، لزمنا أحدُ مسلكين، ولا بد منهما إما نسخ هذا الحديث بالأحاديثِ الدالة على إعتبار الصِّغر في التحريم، وإما نسخُها به، ولا سبيلَ إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ، ولعدم تحقق المعارضة، ولإمكان العمل بالأحاديث كُلِّها، فإنا إذا حملنا حديثَ سهلة على الرخصة الخاصة، والأحاديث الأخرَ على عمومها فيما عدا سالماً، لم تتعارض، ولم ينسخ بعضُها بعضاً، وعُمِلَ بجميعها. قالوا: وإذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم قد بَّين أن الرضاع إنما يكون في الحولين، وأنه إنما يكون في الثدى، وإنما يكون قبل الفِطام، كان ذلك ما يَدُلُّ على أن حديث سهلة على الخصوص، سواء تقدم أو تأخر، فلا ينحصِرُ بيانُ الخصوص في قوله هذا لك وحدك حتى يتعيَّن طريقاً. قالوا: وأما تفسيرُ حديث (إنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ) بما ذكرتموه، ففى غاية البُعد من اللفظ، ولا تتبادر إليه أفهامُ المخاطبين، بل القولُ في معناه ما قاله أبو عُبيد والناس، قال أبو عبيد: قوله: (إنما الرَّضاعةُ مِنَ المجاعة) يقول: إن الذي إذا جاع كان طعامُه الذي يُشبعه اللبن، إنما هو الصبىُّ الرضيعُ. فأما الذي شبعُه من جوعه الطعامُ، فإن رضاعه ليس برضاع، ومعنى الحديث: إنَّما الرضاعُ في الحولين قبل الفطام، هذا تفسير أبى عُبيد والناس، وهو الذي يتبادر فهمُه مِن الحديث إلى الأذهان، حتى لو احتمل الحديثُ التفسيرين على السواء، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديثِ لهذا المعنى، وكشفها له، وإيضاحها، ومما يبين أن غيرَ هذا التفسير خطأ، وأنه لا يَصحّ أن يُراد به رضاعة الكبير، أن لفظة (المجاعة) إنما تدل على رضاعة الصغير، فهى تُثبتُ رضاعة المجاعة، وتَنفى غيرها، ومعلوم يقيناً أنه إنما أراد مجاعةَ اللبن لا مجاعةَ الخبز واللحم، فهذا لا يخطُر ببالِ المتكلم ولا السامع، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاماً لم يبق لنا ما ينفى ويُثبت. وسياق قوله: لما رأى الرجل الكبير، فقال: (إنما الرضاعةُ مِن المجاعة) يبينُ المرادِ، وأنه إنما يُحرِّم رضاعة من يجوعُ إلى لبن المرأة، والسياق يُنزِّلُ اللفظ منزلة الصريح، فتغيرُ وجهه الكريم صلوات اللَّهِ وسلامه عليه وكراهتُه لذلك الرجل، وقوله: (انظرن مَنْ إخوانُكن) إنما هو للتَحفظ في الرضاعة، وأنها لا تُحرَّمُ كلَّ وقت، وإنما تُحَرِّمُ وقتاً دون وقت، ولا يفهم أحدٌ من هذا أنما الرضاعة ما كان عددُها خمساً فيعبر عن هذا المعنى بقوله: (من المجاعة)، وهذا ضدُّ البيان الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم. وقولكم: إن الرضاعة تطرُدُ الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوعَ عن الصغير كلام باطل، فإنه لا يُعهد ذو لحية يُشبِعُهُ رضاعُ المرأة ويَطْردُ عنه الجوع، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقومُ مقامَ اللبن، فهو يَطْرُدُ عنه الجوع، فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلاً، والذي يُوضِّحُ هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ حقيقة المجاعة، وإنما أراد مَظنتها وزمنها، ولا شك أنه الصِّغَرُ، فإن أبيتم إلا الظاهرية، وأنه أراد حقيقتها، لزمكم أن لا يُحرِّمَ رضاعُ الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائعٌ، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئاً. وأما حديث الستر المصون، والحُرمة العظيمة، والحِمى المنيع، فرضىَ اللَّه عن أم المؤمنين، فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يُثبت المحرمية، فسائرُ أزواج النبىِّ صلى الله عليه وسلم يخالفنها في ذلك، ولا يرينَ دخولَ هذا السِّتر المصون، والحِمى الرفيع بهذه الرضاعة، فهى مسألة اجتهاد، وأحدُ الحزبين مأجور أجراً واحداً، والآخر مأجورٌ أجرين، وأسعدُهما بالأجرين من أصاب حكم اللَّهِ ورسوله في هذه الواقعة، فكل من المدخل للستر المصونِ بهذهِ الرضاعة، والمانع مِن الدخول فائز بالأجر، مجتهد في مرضاة اللَّه وطاعة رسوله، وتنفيذ حكمه، ولهما أسوة بالنبيين الكريمين داودَ وسُلَيْمانِ اللذين أثنى اللَّه عليهما بالحِكمة والحُكم، وخصَّ بفهم الحُكومة أحدَهُما. وأما ردُّكم لحديث أم سلمة، فتعسُّفٌ بارد، فلا يلزم انقطاعُ الحديثِ مِن أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أمَّ سلمة صغيرة، فقد يعقِلُ الصغيرُ جداً أشياء، ويحفظُها، وقد عَقَل محمودُ بنُ الربيع المَجَّةَ وهو ابنُ سَبْعِ سِنين، ويَعْقِلُ أصغر منه. وقد قلتم: إن فاطمة كانت وقتَ وفاة أم سلمة بنت إحدى عشرة سنة، وهذا سِن جيد، لا سيما للمرأة، فإنها تَصلح فيه للزوج، فمن هي في حد الزواج، كيف يقال: إنها لا تعقِلُ ما تسمع، ولا تدرِى ما تُحدِّثُ به؟ هذا هو الباطلُ الذي لا تُرد به السننُ، مع أن أم سلمة كانت مصادقةً لجدتها أسماء، وكانت دارهما واحدة، ونشأت فاطمة هذه في حَجر جدتها أسماء مع خالة أبيها عائشة رضى اللَّه عنها وأم سلمة، وماتت عائشةُ رضى اللَّه عنها سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وقد يُمكن سماعُ فاطمة منها، وأما جدتها أسماء، فماتت سنة ثلاث وسبعين، وفاطمة إذ ذاك بنت خمس وعشرين سنة، فلذلك كثر سماعُها منها، وقد أفتت أمُّ سلمة بمثل الحديث الذي روته أسماء. فقال أبو عُبيد: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة، أنها سُئلت ما يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ في الثَّدْى قَبْلَ الفِطَامِ. فروت الحديث، وأفتت بموجبه.وأفتى به عمرُ بنُ الخطاب رضى اللَّه عنه، كما رواهُ الدارقطنى من حديث سفيان عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر قال: سمعت عمرَ يقول: (لارضاع إلا في الحَوْلَيْنِ في الصِّغَرِ). وأفتى به ابنُه عبد اللَّهِ رضى اللَّه عنه، فقال مالك رحمه اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: أنه كان يقول: لا رَضَاعَة إلا لمن أَرْضَعَ في الصِّغَرِ، ولا رَضَاعَةَ لِكَبِيرٍ. وأفتى به ابن عباس رضى اللَّه عنهما، فقال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان الثورى، عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، قال: لا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَام. وتناظر في هذه المسألة عبدُ اللَّه بن مسعود، وأبو موسى، فأفتى ابنُ مسعود بأنه لا يُحَرِّمُ إلا في الصغر، فرجع إليه أبو موسى، فذكر الدارقطنى، أن ابن مسعود قال لأبى موسى: أنت تُفتى بكذا وكذا، وقد قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا رَضَاع إلا ما شَدَّ العَظْمَ وأنبتَ اللَّحْمَ). وقد روى أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنبارى، حدثنا وكيع، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن أبى موسى الهلالى، عن أبيه، عن ابن مسعود رضى اللَّه عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إلاَّ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأَنْشَزَ العَظْم). ثم أفتى بذلك كما ذكره عبد الرزاق عن الثورى، حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن أبى حُصين، عن أبى عطية الوادعى، قال: جاء رَجُلٌ إلى أبى موسى، فقال: إن امرأتى وَرِمَ ثديُها فَمَصِصْتُهُ، فدخل حلقى شىء سبقنى، فشدَّد عليه أبو موسى، فأتى عبدَ اللَّه بن مسعود، فقال: سألتَ أحداً غيرى؟ قال: نعم أبا موسى، فشدَّدَ على، فأتى أبا موسى، فقال: أرضيعٌ هذا؟ فقال أبو موسى: لا تسألونى ما دامَ هذا الحبرُ بينَ أظهركم. فهذه روايتُه وفتواه. وأما على بن أبى طالب، فذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن جُويبر، عن الضحاك، عن النزَّال بن سبرة، عن على: لارَضاع بَعْدَ الفِصَال. وهذا خلاف رواية عبد الكريم، عن سالم بن أبى الجعد، عن أبيه، عنه. لكن جُويبر لا يُحتج بحديثه، وعبد الكريم أقوى منه. المسلك الثالث: أن حديثَ سهلة ليس بمنسوخ، ولا مخصوصٍ، ولا عامٍ في حقِّ كُلِّ أحد، وإنما هو رخصةٌ للحاجة لمن لا يَستغنى عن دخوله على المرأة، ويَشقُّ احتجابُها عنه، كحال سالم مع امرأة أبى حُذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجَةِ أَثَّر رضاعُه، وأما مَنْ عداه، فلا يُؤثِّر إلا رضاعُ الصغير، وهذا مسلكُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى، والأحاديثُ النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتقيَّد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيصُ هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديثِ من الجانبين، وقواعدُ الشرع تشهد لهُ، واللَّه الموفق. هذا البابُ قد تولى الله سبحانه بيانَه في كتابه أتمَّ بيانٍ، وأوضحَه، وأجمَعه بحيث لا تَشِذُّ عنه معتدة، فذكر أربعة أنواعٍ من العِدَدِ، وهى جملة أنواعها. النوع الأول: عِدَّةُ الحامل بوضع الحمل مطلقاً بائنةً كانت أو رجعيةً، مفارقة في الحياة، أو متوفَّى عنها،فقال: أحدُها: عمومُ المخَبرِ عنه، وهو أولاتُ الأحمال، فإنه يتناولُ جميعَهُن. الثانى: عمومُ الأجَلِ، فإنه أضافه إليهن، وإضافةُ اسمِ الجمع إلى المعرفة يَعُمُّ، فجعل وضعَ الحمل جميعَ أجلهن، فلو كان لِبعضهن أجل غيره لم يكن جميعَ أجلهن. الثالث: أن المبتدأ والخبر معرفتان، أما المبتدأ: فظاهر، وأما الخبر وهو قوله تعالى: النوع الثانى: عدة المطلقة التي تحيضُ، وهى ثلاثةُ قُروُء، كما قال اللَّه تعالى: النوع الثالث: عدة التي لا حيضَ لها، وهى نوعان: صغيرة لا تحيض، وكَبِيرة قد يئست من الحيض. فبيَّن اللَّهُ سبحانَه عِدَّة النوعين بقوله: النوع الرابع: المتوفّى عنها زوجها فبين عدتها سبحانه بقوله: فهذه أصول العدد في كتاب اللَّه مفصَّلةً مبينة، ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك، وقد دلَّت السنةُ بحمد اللَّه على مرادِ اللَّه منها ونحن نذكرها ونذكر أوْلَى المعانى وأشبهها بها، ودلالة السنة عليها. فمن ذلك اختلافُ السلف في المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً، فقال على، وابن عباس، وجماعة من الصحابة: أبعدُ الأجلين من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشراً، وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه اللَّه اختاره سحنُون. قال الإمام أحمد في رواية أبى طالب عنه: على بن أبى طالب وابن عباس يقولان في المعتدة الحامل: أبعد الأجلين، وكان ابن مسعود يقول: من شاء باهَلْتُهَ، إنَّ سورة النساء القُصرى نزلت بعدُ، وحديث سبيعة يقضى بينهم (إذا وَضَعَتْ، فَقَدْ حَلَّتْ). وابنُ مسعود يتأول القرآن: وقد تناظر في هذه المسألة: ابنُ عباس، وأبو هريرة رضى اللَّه عنهما، فقال أبو هريرة: عِدتُها وضع الحمل، وقال ابنُ عباس: تعتدُّ أقصى الأجلين، فحكَّما أمَّ سلمة رضى اللَّه عنها، فحكمت لأبى هريرة، واحتجت بحديث سُبَيْعَة. وقد قيل: إن ابن عباس رجع. وقال جمهورُ الصحابة ومَن بعدهم، والأئمةُ الأربعة: إن عدتها وضعُ الحمل، ولو كان الزوجُ على مغتسَلِه فوضعت، حلَّت. قال أصحاب الأجلين: هذه قد تناولها عمومان، وقد أمكن دخولُها في كليهما، فلا تخرجُ مِن عدتها بيقين حتى تأتى بأقصى الأجلين، قالوا: ولا يُمكِنُ تخصيصُ عموم إحداهما بخصوص الأخرى، لأن كلَّ آية عامةٌ من وجه، خاصةٌ من وجه، قالوا: فإذا أمكن دخولُ بعض الصور في عموم الآيتين، يعنى إعمالاً للعموم في مقتضاه.فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما. والجمهورُ أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة. أحدها: أن صريحَ السنة يدل على اعتبار الحمل فقط، كما في (الصحيحين): أن سُبيعة الأسلميةَ توفِّى عنها زوجُها وهى حبلى، فوضعت، فأرادت أن تنكِحَ، فقال لها أبو السنابل: ما أنتِ بناكحة حتى تعتدى آخرَ الأجلين، فسألَت النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: (كَذَبَ أَبو السَّنابِلِ، قَد حَلَلْتِ فَانْكِحِى مَنْ شِئْتِ). الثانى أن قوله: وهذا الجوابُ يحتاج إلى تقرير، فإن ظاهِرَه أن آيةَ الطلاق مقدَّمة على آيةِ البقرة لتأخرِها عنها، فكانت ناسخةً لها، ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعمُّ مِنه عند المتأخرين، فإنهم يُريدون به ثلاثة معان. أحدُها: رفعُ الحكم الثابت بخطاب. الثانى: رفعُ دلالة الظاهر إما بتخصيص، وإما بتقييد، وهو أعمُّ مما قبله. الثالث: بيانُ المراد باللفظ الذي بيانه مِن خارج، وهذا أعمُّ مِن المعنيين الأولين، فابن مسعود رضى اللَّه عنه أشار بتأخر نزولِ سورةِ الطلاق، إلى أن آية الاعتداد بوضع الحملِ ناسخة لآية البقرة إن كان عمومُها مراداً، أو مخصَّصة لها إن لم يكن عمومُها مراداً مبيِّنة للمراد منها، أو مقيِّدة لإطلاقها، وعلى التقديرات الثلاث، فيتعينُ تقديمُها على عموم تلك وإطلاقها، وهذا مِن كمال فقهه رضى اللَّه عنه، ورسوخِه في العلم، ومما يُبين أن أصولَ الفقه سجيةٌ للقوم، وطبيعةٌ لا يتكلفونها، كما أن العربيةَ والمعانى والبيان وتوابعَها لهم كذلك، فَمَنْ بعدهم فإنما يُجهد نفسه ليتعلق بغُبارهم وأنى له؟ الثالث:أنه لو لم تأت السنةُ الصريحةُ بإعتبار الحمل، ولم تكن آيةُ الطلاق متأخرة، لكان تقديمُها هو الواجب لما قررناه أولاً من جهات العموم الثلاثة فيها، وإطلاق قوله:
|